فصل: سورة الزخرف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏شَرَعَ‏}‏‏:‏ أي بَيَّنَ وأظهر‏.‏ ‏{‏مِّنَ الدِّينِ‏}‏ أراد به أصول الدين؛ فإنها لا تختلف في جميع الشرائع، وأمَّا الفروع فمختلفة، فالآية تدلُّ على مسائلَ أحكامُها في جميعِ الشرائعِ واحدَةٌ‏.‏

ثم بيَّن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ‏}‏ *** وفي القصة أن تحريم البنات والأخوات إنما شُرعَ في زمان نوح عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَأ جَآءَهُمُ العِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

يعني أنهم أَصّرُّوا على باطلهم بعد وضوح البيان وظهور البرهان حين لا عُذْرَ ولا شكَّ‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ‏}‏ *** وهو انه حَكَمَ بتأخيرِ العقوبةِ إلى يومِ القيامة لعَجَّل لهم ما يتمنونه‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي أُدْعُ إلى هذا القرآن، وإلى الدين الحنيفي، واستقَمْ في الدعا، وفي الطاعة‏.‏

أَمَرَ الكُلَّ من الخَلْقِ بالاستقامة، وأفرده بذكر التزام الاستقامة‏.‏

ويقال‏:‏ الألف والسين والتاء في الاستقامة للسؤال والرغبة؛ أي سَلْ مني أن أقيمك، ‏{‏وَلاَ تَتَبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏}‏‏:‏ أمرت بالعدل في القضية، وبأن أُعْلِمَ أنَّ اللَّهَ إلهُ الجيمع، وأَنّه يحاسِب غداً كلاً بعمله، وبأن الحجةَ لله على خَلْقِه، وبأن الحاجةَ لهم إلى مولاهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يجادلون في الله من بعد ما استُجِيبَ لدعاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم يومَ بدرٍ على المشركين‏.‏

وحُجَّةُ هؤلاء الكفار داحضة عند ربهم لأنهم يحتجون بالباطل، وهم من الله مستوجِبون للعنة والعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

أَنزلَ الكتابَ، وأنزل الحُكْمَ بالميزان أي بالحق‏.‏

ويقال ألهمهم وزنَ الأشياء بالميزان، ومراعاةَ العدل في الأحوال‏.‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏}‏‏:‏ يزجرهم عن طول الأمل، وينبههم إلى انتظار هجوم الأجَل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

المؤمنون يؤمنِون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة، ويَكِلُون أمورَهم إلى الله؛ فلا يتمنون الموتَ حَذَرَ الابتلاء، ولكن إذا وَرَدَ الموتُ لم يكرهوه، وكانوا مستعدين له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏لَطِيفُ‏}‏ أي عالم بدقائق الأمور وغوامضها‏.‏ واللطيف هو المُلْطِف المحسن‏.‏‏.‏ وكلاهما في وصفه صحيح‏.‏ واللطف في الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليومَ هو لُطْفٌ منه به‏.‏

وأكثرُ ما يستعمل اللطف- في وصفه- في الإحيان بالأمور الدينية‏.‏

ويقال‏:‏ خَاطَبَ العابدين بقوله‏:‏ ‏{‏لَطيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏‏:‏ أي يعلم غوامضَ أحوالهم‏.‏ من دقيق الرياء والتصنُّع لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم وأعمالهم‏.‏ وخاطَبَ العُصاةَ بقوله‏:‏ «لطيف»‏:‏ لئلا ييأسوا من إحسانه‏.‏

ويقال‏:‏ خاطَبَ الأغنياءَ بقوله‏:‏ «لطيف»‏:‏ ليعلموا أنه يعلم دقائقَ معاملاتهم في جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطَبَ الفقراءَ‏.‏ بقوله‏:‏ «لطيف» أي أنه مُحْسِنٌ يرزق من يشاء‏.‏

ويقال‏:‏ سماعُ قوله‏:‏ «اللَّهُ» يوجِبَ الهيبةَ والفزع، وسماعُ «لطيفٌ» يوجِبُ السكونَ والطمأنينة‏.‏ فسماعُ قوله‏:‏ «اللَّهُ» أوجب لهم تهويلاً، وسماع قوله‏:‏ «لطيفٌ» أوجب لهم تأميلاً‏.‏

ويقال‏:‏ اللطيفُ مَنْ يعطي قَدْرَ الكفاية وفوق ما يحتاج العبدُ إليه‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ لُطفِه بالعبد عِلْمُه بأنه لطيف، ولولا لُطفُه لَمَا عَرَفَ أنه لطيف‏.‏

ويقال‏:‏ مِنْ لُطْفِه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكَلَّفَه دون الطاقة‏.‏

ويقال‏:‏ مِنْ لُطفِه بالعبد إبهام عاقبته عليه؛ لأنه لو علم سعادتَه لاتَّكَلَ عليه، وأَقَلَّ عملَه ولو عَلِمَ شقاوتَه لأيِسَ ولَتَرَكَ عَمَله‏.‏‏.‏ فأراده أن يستكثرَ في الوقت من الطاعة‏.‏

ويقال‏:‏ من لطفه بالعبد إخفاءُ أَجِلِه عنه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أَجَلُه‏.‏ ويقال‏:‏ من لطفه بالعبد انه يُنْسِيَه ما عمله في الدنيا من الزلّة؛ لئلا يتنغَّص عليه العَيْشُ في الجنة‏.‏

ويقال‏:‏ اللطيفُ مَنْ نَوَّر الأسرارَ، وحفظ على عبده ما أَوْدَعَ قلبَه من الأسرار، وغفر له ما عمل من ذنوبٍ في الإعلان والإسرار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِدُ حَرْث الأَخِرَةِ‏}‏ نَزِدْه-اليومَ- في الطاعات توفيقاً، وفي المعارف وصفاء الحالات تحقيقاً‏.‏ ونَزِدْه في الآخرة ثواباً واقتراباً وفنونَ نجاةٍ وصنوفَ درجاتٍ‏.‏

‏{‏وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا‏}‏‏:‏ مكتقياً به نؤتِه منها ما يريد، وليس له في الآخرةِ نصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏مَالَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏‏:‏ أي ليس ذلك مما أمَرَ به، وإنما هو افتراءٌ منهم‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ‏}‏‏:‏ أي ما سبق به الحُكْمُ بتأخير العقوبة إلى القيامة‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

إذا حصل الإجرام فإلى وقتٍ ما لا يُعَذِّبُهم الله في الغالب، ولكنه لا محالةَ يعذبهم‏.‏ وربما يَثْبُتُ ذلك لبعض أصحاب القلوب فيتأسَّفون، ويعلمون أَنَّ ذلك من الله لهم مُعَجَّلٌ قد أصابهم، أَمَّا الكفار‏.‏‏.‏ فغداً يُشْفِقُون مما يقع بهم عند ما يقرؤونه في كتابهم، لأنَّ العذابَ- لا محالةَ- واقعٌ بهم‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ‏}‏‏:‏ في الدنيا جنان الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة‏.‏ وفي الآخرة في روضات الجنة‏:‏ ‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏‏:‏ إِنْ أرادوا دوامَ للطفِ دامَ لهم، وإنْ أرادوا تمامَ الكشف كان لهم‏.‏‏.‏ ذلك هو الفضلُ الكبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ذلك الذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عبادَه قد مضى ذِكْرُه في القرآن متفرقاً؛ من أوصاف الجنة وأطايبها، وما وَعَدَ اللَّهُ من المثوبة *** ونحو ذلك‏.‏‏.‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى‏}‏‏.‏

قُلْ-يا محمد- لا أسألكم عليه أجراً‏.‏ مَنْ بَشَّرَ أحداً بالخير طَلَبَ عليه أجراً، ولكنَّ اللَّهَ-وقد بَشَّرَ المؤمنين على لسان نبيِّه بما لهم من الكرامات الأبدية-لم يطلب عليه أجراً؛ فاللَّهُ- سبحانه- لا يطلب عِوَضاً، وكذلك نبيُّه- صلى الله عليه وسلم- لا يسأل أجراً؛ فإن المؤمنَ قد أخذ من الله خُلُقَاً حَسَناً *** فمتى يطلب الرسولُ منهم أجراً‏؟‏‏!‏‏.‏ وهو- صلوات الله عليه- يشفع لكلِّ مَنْ آمن به، والله- سبحانه- يعطي الثوابَ لكل مَنْ آمن به‏.‏

‏{‏إلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى‏}‏‏:‏ أراد أن تثبت مودتك في القربى؛ فتودّ منْ يتقرَّب إلى الله في طاعته‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏‏.‏

تضعيف الثواب في الآخرة للواحدِ من عَشَرة إلى سبعمائة *** هذه هي الزيادة‏.‏

ويقال‏:‏ الزيادة هي زيادة التوفيق في الدنيا‏.‏

ويقال‏:‏ إذا أتى زيادة في المجاهدة تفضَّلْنا بزيادة‏.‏‏.‏ وهي تحقيق المشاهدة‏.‏

ويقال مَنْ يقترِفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له فيها حُسْنَ اللطائف‏.‏

ويقال‏:‏ تلك الزيادة لا يصل إليها العبدُ بوسعه؛ فهي مما لا يدخل تحت طَوْقِ البَشَر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

أي أَنَّك إنْ افترَيْتَه خَتَمَ اللّهُ على قلبِكَ، ولكنكَ لم تكذِبْ على ربِّكَ‏.‏

ومعنى الآية أنَّ اللَّهَ يتصرَّف في عباده بما يشاء‏:‏ مِنْ إبعادٍ وتقريب، وإدناء وتبعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْفُواْ عِنِ السِّيِّئَاتِ‏}‏ الألف واللام للجنس مطلقاً، وهي هنا للعهد؛أي تلك السيئات التي تكفي التوبةُ المذكورةُ في الشريعة لقبولها؛ فإنه يعفو عنها إذا شاء‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏:‏ من الأعمال على اختلافها‏.‏

وهو «الذي» *** الذي من الأسماء الموصولة التي لا يتم معناها إلا بِصِلَةٍ، فهو قد تعرَّف إلى عباده على جهة المدح لنفسه بأنه يقبل توبة العبد؛ فالزَّلّةُ- وإن كانتْ توجِبُ للعبد ذميمَ الصِّفَةِ- فإنَّ قبولَها يوجِبُ للحقِّ حميدَ الاسم‏.‏

ويقال‏:‏ قوله‏:‏ «عباده» اسم يقتضي الخصوصية ‏(‏لأنه أضافه إلى نفسه‏)‏ حتى تمنَّى كثير من الشيوخ أن يحاسبه حسابَ الأولين والآخرين لعلّه يقول له‏:‏ عبدي‏.‏ ولكن ماطلبوه فيما قالوه موجود في ‏{‏التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ‏}‏؛ وإذاً فلا ينبغي لهم أن يتمنوا كذلك، وعليهم أن أن يتوبوا لكي يَصِلوا إلى ذلك‏.‏

ويقال لمَّا كان حديثُ العفوِ عن السيئات ذكَرَها على الجمع والتصريح فقال‏:‏ ‏{‏وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ‏}‏‏.‏ ثم لمَّا كان حديثُ التهديد قال‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ فذكره على التلويح؛ فلم يقل‏:‏ ويعلم زلَّتك- بل قال ويعلم «ما» تفعلون، وتدخل في ذلك الطاعةُ والزّلةُ جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

‏(‏أي إذا دَعَوْه استجابَ لهم‏)‏ بعظيم الثواب في الآخرة‏.‏

‏{‏وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏ يقول المفسرون من أهل السُّنَّة في هذه الزيادة إنها الرؤية‏.‏

ذَكَرَ التوبة وأهلها، وذكر العاصين بوصفهم، ثم ذكر المطيعين الذين آمنوا وعملوا الصالحات *** فلمَّا وصل إلى الزيادة- التي هي الرؤية- قال‏:‏ «ويزيدهم» على الجمع؛ والكناية إذا تَلَتْ مذكوراتٍ رجعت إليهما جميعاً؛ فيكون المعنى أن الطاعاتِ في مقابلها الدرجات، وتكون بمقدارها في الزيادة والنقصان، وأَمَّا الرؤية فسبيلها الزيادة والفضل *** والفضلُ ليس فيه تمييز‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا ذكر أنَّ التائبين تُقْبَلُ توبتُهم، ومَنْ لم يَتُبْ غفر زلَّته، وأنَّ المطيعين لهم الجنة‏.‏‏.‏ فلربما خَطَرَ ببالِ أَحَدٍ‏:‏ وإذاً فهذه النارُ لِمَنْ هي‏؟‏‏!‏ فقال جل ذكره‏.‏

‏{‏وَالْكَافِرُون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏

فالعصاةُ من المؤمنين لهم عذابٌ‏.‏‏.‏ امَّا الكافرون فلهم عذابٌ شديدٌ؛ لأنَّ دليلَ الخطاب يقتضي هذا وذاك؛ يقتضي أن المؤمنين لهم عذابٌ‏.‏‏.‏ ولكنْ ليس بشديد، وأمَّا عذابُ الكافرين فشديدٌ‏.‏

ويقال‏:‏ إن لم يَتُبْ العبدُ خوفاً من النار، ولا طمعاً في الجنة لَكَان من حقِّه أن يتوب ليَقْبَلَ الحقُّ- سبحانه‏.‏

ويقال إن العاصي يكون ابداً منكسرَ القلب، فإذا عَلِمَ أن اللَّهَ يَقْبَلُ الطاعة من المطيعين يتمنى أَنْ ليت له طاعةً مُيَسَّرَةً ليقبلَها، فيقول الحقُّ‏:‏ عبدي، إنْ لم تَكُنْ لك طاعةٌ تصلح للقبول فَلكَ توبةٌ إنْ أتيْتَ بها تصلح لقبولها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

هذا الخطاب في الظاهر يشبه الاعتذار في تخاطب الآدميين‏.‏ والمعنى أنني لم أبسط عليكَ أيها الفقيرُ في الدنيا لِمَا كان لي من العلم أنني لو قَسَمْتُ عليك الدنيا لَطَغَيْتَ، ولسَعَيْتَ في الأرض بالفساد‏.‏

ويقال‏:‏ قوله‏:‏ «ولكن‏.‏‏.‏‏.‏»‏:‏ لكن كلمة استدارك، فالمعنى‏:‏ لم أُوَسِّعْ عليكَ الرزقَ بمقدار ما تريد؛ ولم أمنع عنك ‏(‏الكُلَّ‏)‏؛ لأني أُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما أشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

الله- سبحانه مُحْيِي القلوب؛ فكما أنه ‏{‏وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏، فبعدما أصاب الأرضَ جدوبةٌ، وأبطأ نزولُ الغيثِ، وقَنِطَ الناسُ من مجيء المطر، وأشرفَ الوقتُ على حدِّ الفَواتِ يُنَزِّلُ اللَّهُ بفضله الغيثَ، ويحيي الأَرضَ بعد قنوطِ أهلها‏.‏‏.‏ فكذلك العبد؛ إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْوُ ودِّه، وكسفت شمسُ أُنْسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه فلربما ينظر إليه الحقُّ برحمته؛ فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريًّا، ويُنْبِتُ في مشاهدة أُنْسِه ورداً جَنِيًّا‏.‏‏.‏ وأنشدوا‏:‏

إنْ راعني منك الصدود *** فلعلَّ أيامي تعود

ولعلَّ عهدك باللَّوى *** يحيا فقد تحيا العهود

والغصن ييبس تارةً *** وتراه مُخْضرًّا يميد

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

جعل اللَّهُ في كلِّ شيءٍ من الخلوقات دلالةً على توحُّدِه في جلاله، وتفرُّدِه بنعت كبريائه وجماله‏.‏

‏{‏وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ‏}‏‏:‏ والإشارة منها أَنَّ الحقَّ- سبحانه- يغار على أوليائه أن يَسْكَنَ بعضُهم بقلبه إلى بعضٍ؛ فأبداً يُبَدِّدُ شمْلَهم، ولا تكاد الجماعةُ من أهل القلوب تتفق في موضعٍ واحد إلا نادراً، وذلك لمدةٍ يسيرة‏.‏‏.‏ كما قالوا‏:‏

رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم *** بأكنافِ أطرافِ السماءِ نجومُ

وفي بعض الأحايين قد يتفضَّل الحقُّ عليهم فتدنو بهم الديار، ويحصل بينهم- في الظاهر- اجتماعٌ والتقاءٌ، فيكون في ذلك الوقت قد نظر الحقُّ- سبحانه- بفضله إلى أنَّ في اجتماعهم بركاتٍ لحياة العالَم‏.‏

وهذا- وإن كان نادراً- فإنه على جَمْعِهم- إذا يشاء- قدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إذا تحقَّق العبدُ بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظيةٌ او حالةٌ مما يسوءُه، وعلِمَ أن ذلك جزاءٌ له، وعقابٌ على ما بَدَرَ منه من سوءِ الأدب لاستحيى بخجلته مِنْ فِعْلِه، ولَشغَلَه ذلك عن رؤية الناس، فلا يحاول أن ينتقمَ منهم أو يكافئَهم أو يدعوَ عليهم، وإنما يشغله تلافي ما بَدَرَ منه من سوءِ الفعلِ عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلَّط عليه من الخَلْق‏.‏‏.‏ تاركاً الأمرَ كلَّه لربِّه‏.‏

ويقال‏:‏ إذا كَثُرَت الأسبابُ من البلايا على العبد، وتوالى عليه ذلك‏.‏‏.‏ فَلْيُفَكِرْ في أفعاله المذمومة‏.‏‏.‏ كم يحصل منه حتى يبلغَ جزاء ما يفعله- مع العفو الكثير- هذا المبلغ‏؟‏‏!‏ فعند ذلك يزداد حُزْنُه وتأسُّفُه؛ لِعِلْمِه بكثرة ذنوبه ومعاصيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يريد بها السفن التي تجري في البحار؛ يرسل اللَّهُ الريحَ فتُسَيَّرها مرةً، ويُسَكِّنها أخرى، وما يريهم خلال ذلك من الهلاك أو السلامة *** وهو بهذا يَحثُّهم على التفكُّر والتنبُّه دائماً‏.‏

والإشارة في هذا إلى إمساك الناس في خلال فَتْرَةِ الوقت عن الأنواء المختلفة، وحفظهم في إيواء السلامة، فالواجبُ الشكرُ في كل حالة، وإذا خَلُصَ الشكرُ استوجب جزيلَ المزيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

يعني أنَّ الراحاتِ في الدنيا لا تصفو، ومن المشائب لا تخلو‏.‏ وإنْ اتفق وجودُ البعض منها في أحايين فإنها سريعة ‏(‏الزوال‏)‏، وشيكة الارتحال‏.‏

‏{‏وَمَا عِندَ اللَّهِ‏}‏ من الثواب الموعود «خيرٌ» من هذا القليل الموجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏كَبَائِرَ الإِثْمِ‏}‏‏:‏ الشِرْك‏.‏ و‏{‏وَالْفَوَاحِشَ‏}‏‏:‏ ما دون ذلك من الزلاَّت‏.‏ فإذا تركوها لا يتجرَّعون كاساتِ الغضب بل تسكن لديهم سَوْرَةُ النَّفْسِ؛ لأنهم يتوكلون على ربهم في عموم الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏اسْتَجَابُواْ لِرَبْهِمْ‏}‏ فيما دعاهم إليه وما أَمَرَهم به من فنون الطاعات؛ فهؤلاء هم الذين لهم حُسْنُ الثوابِ وحميدُ المآبِ‏.‏

والمستجيبُ لربِّه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا تَبْقَى منه لنَفْسِه بقية‏.‏

‏{‏وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ‏}‏‏:‏ لا يستبَّد أحدُهم برأيه؛ لأنه يَتَّهِمُ أمرَه ورأيَه أبداً ثم إذا أراد القطعَ بشيءٍ يتوكل على الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

«البغيُ»‏:‏ الظلمُ، فيعلم أحدهم أن الظلمَ الذي أصابه هو من قِبَلِ نَفسِه، فينتصر على الظالم وهو نفسه؛ بأَنْ يكبحَ عنانها عن الركض في ميدان المخالفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏(‏يعني لا تجاوزوا حدَّ ما جنى الجاني عليكم في المكافأة أو الانتقام‏)‏‏.‏

‏{‏فَمَنْ عفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏‏:‏ مَنْ عفا عن الجاني، واصلح ما بينه وبين الله- أَصْلَحَ اللَّهُ ما بينه وبين الناسِ‏.‏ ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏‏:‏ فالذي للعبد من الله وعلىلله وعند الله خيرٌ مما يعمله باختياره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

عَلِمَ الله أن الكُلَّ من عباده لا يجد التحررَ من أحكام النًَّفْس، ولا يتمكن من محاسن الخُلُق فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط- وإنْ كان الأَوْلى بهم الصفح والعفو‏.‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ‏.‏‏.‏‏}‏ السبيلُ بالملامة لِمَنْ جاوز الحدَّ، وعدا الطَّوْرَ، وأتى غيرَ المأذونِ له من الفعل‏.‏‏.‏ فهؤلاء لهم عذابٌ أليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

صَبَرَ على البلاْءِ من غير شكوى، وغَفَرَ- بالتجاوز عن الخَصْم- ولم تبقَ لنَفْسه عليه دعوى، بل يُبرئ خَصْمَه من كل دعوى، في الدنيا والعُقبى‏.‏‏.‏ فذلكَ من عزم الأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

إن الذين أضلَّهم اللّهُ، وأعمى أبصارَهم وبصائرَهم، وأوقعهم في كدِّ عقوبتهم، وحَرَمَهم بَرْدَ الرضا لحكْم ربِّهم ليس لهم وليٌّ من دون الله، ولا مانعَ لهم من عذابه‏.‏ وتراهم إذا رأوا العذابَ يَطلبون منه النجاة فلا ينالونها‏.‏

وتراهم يُعْرَضُون على النار وهم خاشعون من الذُّلِّ؛ لا تنفعهم ندامةٌ، ولا تُسْمَعُ منهم دعوةٌ، ويُعَيِّرهُم المؤمنون بما ذَكَّروهم به فلا يسمعون، فاليومَ لا ناصرَ بنصرهم، ولا راحمَ يرحمهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

الاستجابةُ لله الوفاءُ بعهده، والقيامُ بحقِّه، والرجوعُ عن مخالفته إلى مرافقته، والاستسلام‏.‏

في كل وقتٍ لحُكْمهِ‏.‏ والطريقُ اليومَ إلى الاستجابة مفتوحٌ‏.‏ وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتةً، ويُؤْخَذُ فلتةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ‏}‏‏.‏

فإن أعرضوا عن الإجابة فليس عليك إلا تبليغُ الرسالة، ثم نحن أعلمُ بما نعاملهم به‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ‏}‏‏.‏

إذا أذقنا الإنسان مِنَّا رفاهيةً ونعمةً فَرِحَ بتلك الحالة، وقابلها بالبَطَرِ، وتوصَّل بتمام عافيته إلى المخالفة، وجعل السلامةَ ذريعةً للمخالفة‏.‏ وإنْ أصابته فتنةٌ وبلية، ومَسَّتْهُ مصيبةٌ ورزية فإنه كفورٌ بنعمائنا، وجحودُ لآياتنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يهب لمن يشاء الذكور، ولمن يشاء الإناث، ولمن يشاء الجنين، ويجعل من يشاء عقيماً، فلا اعترضَ عليه في تقديره، ولا افتياتَ في اختياره، فهو أَوْلَى بعباده من عباده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

لله بحقِّ مُلْكِه أن يفعل ما يشاء، ويعطي مَنْ يشاء مِنْ عباده ما يشاء، ولكن أجرى العادة وحَكَم بأنه لا يفعل إلا ما وَرَدَ في هذه الآية؛ فلم يُكَلِّم أحداً إلا بالوحي، أو من وراء حجاب؛ يعني وهو لا يرى الحقَّ، فالمحجوبُ هو العبد لا الرب، والحجابُ أن يخلق في محل الرؤية ضد الرؤية‏.‏‏.‏ تعالى اللَّهُ عن أن يكونَ من وراء حجاب؛ لأن ذلك صفةُ الأجسام المحدودة التي يُسْبَلُ عليها ستر‏.‏ إنه «عَلِىٌّ»‏:‏ في شأنه وقَدْرِه، «حكيمٌ»‏:‏ في أفعاله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏52‏)‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

أي ذلك مثلما أوحينا إليك «روحاً» من أمرنا يعني القرآن؛ سَمَّاه روحاً لأنه مَنْ آمن به صار به قلبُه حَيًّا‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏‏:‏ أي جبريل عليه السلام، ويسمى جبريل روح القدس‏.‏

‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن، «ولا الإيمان»‏:‏ أي تفصيل هذه الشرائع‏.‏

‏{‏وَلَكِن جَعَلْنَاهُ‏}‏‏:‏ أي القرآن «نوراً» نهدي به مَنْ نشاء من عبادنا المؤمنين‏.‏ ‏{‏ألاَ إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ‏}‏‏:‏ لأن منه ابتداء الأمور‏.‏

سورة الزخرف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الحاءُ تدل على حياته والميمُ على مجده‏.‏‏.‏ وهذا قَسَمٌ؛ ومعناه‏:‏ وحياتي ومجدي وهذا القرآنِ إنَّ الذي أخبرْتُ عن رحمتي بعبادي المؤمنين حقٌ وصِدْقٌ‏.‏ وجعلناه قرآناً عربياً ليتيسَّرَ عليكم فَهْمُ معناه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا‏}‏‏:‏ أي أنه مكتوب في اللَّوح المحفوظ‏.‏

‏{‏لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ‏}‏ لِعَلِيٌّ القَدْرِ، حكيمُ الوصفِ؛ لا تبديلَ له ولا تحويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي أننا لا نفعل ذلك؛ ‏(‏فيكون معنى الاستفهام‏)‏ أفتقطع عنكم خطابَنا وتعريفَنا إنْ أسرفتم في خلافكم‏؟‏ لا‏.‏‏.‏ إننا لا نرفع التكليفَ بِأَنْ خالَفْتُم، ولا نهجركم- بِقَطْع الكلام عنكم- إنْ أسرفتم‏.‏

وفي هذا إشارةٌ لطيفةٌ وهو أنه لا يقطع الكلامَ- اليومَ- عَمَّنْ تمَادَى في عصيانه، وأسرف في أكثرشأنه‏.‏ فأحرى أَنَّ مَنْ لم يُقَصِّرْ في إيمانه- وإنْ تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُلْ خَلَلٌ في عِرفانه- ألا يَمْنَعَ عنه لطائفَ غفرانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ما أتاهم من رسولٍِ فقابلوه بالتصديق، بل كّذَّبَ به الأكثرون وحجدوا، وعلى غَيِّهم أَصَرُّوا‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏‏.‏

أي لم يُعجِزْنا أحدٌ منهم، ولم نعادِرْ منهم أحداً، وانتقمنا مِنَ الذين أساؤوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

كانوا يُقِرُّون بأنَّ اللَّهَ خالقُهم، وأنَّه خَلَقَ السمواتِ والأرضَ، وإنما اجحدوا حديثَ الأنبياءِ، وحديثَ البعثِ وجوازه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

كما جَعَلَ الأرضَ قراراً لأشباحهم جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم؛ فالخَلْقُ سُكَّانُ الأرضِ، فإذا انتهت المدةُ- مدةُ كَوْنِ النفوسِ على الأرضِ- حَكَمَ اللَّهُ بخرابها *** كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُليَّة قضى اللَّهُ بخرابها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كّذَلِكَ تُخْرِجُونَ‏}‏‏.‏

يعني كما يُحْيي الأرضَ بالمطرَ يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِى خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا‏}‏‏.‏

أي الاصنافَ من الخَلْق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ‏}‏‏.‏

كذلك جَنَّسَ عليكم الأحوالَ كلها؛ فمِنْ رغبةٍ في الخيرات إلى رهبةٍ مما توعدَّكم به من العقوبات‏.‏ ومن خوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاَّت إلى رجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات طمعاً في المثوبات *** وغير ذلك من فنون الصِّفات‏.‏

‏{‏لِتَسْتَوُاْ عَلَى ظُهُورِهِ‏}‏‏.‏

يعني الفُلْكَ والأنعام‏.‏‏.‏

‏{‏ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوتَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏‏.‏

مطيعين، وكم سَخَّرَ لهم الفُلْكَ في البحر، والدوابَّ للركوب، وأعَظم عليهم المنة بذلك فكذلك سَهَّلَ للمؤمنين مركب التوفيق فَحَمَلهم عليه إلى بساط الطاعة، وسهَّلَ للمريدين مركبَ الإرادة فَحَمَلهم عليه إلى عرَصَات الجود، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمَمِ فأناخوا بعِقْوةِ العِزَّةِ‏.‏ وعند ذلك مَحَطُّ الكافة؛ إذ لم تخرق سرادفاتِ العزَّةِ هِمَّةُ مخلوقِ‏:‏ سواء كان مَلَكاً مُقَرَّباً أونبيّاً مُرْسَلاً أو وليًّا مُكَرَّماً، فعند سطواتِ العِزَّةِ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ، ويقف وراءَها كلُّ مُحْدَثٍ مسبوق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

هم الذين قالوا‏:‏ الملائكةُ بناتُ الله؛ فجعلوا البناتِ لله جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته‏.‏‏.‏ تَعَسَاً لهم في قولهم ذلك وخِزْياً‏!‏‏!‏ فردَّ عليهم ذلك قائلاً‏:‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ‏}‏‏.‏

قال لهم على جهة التوبيخ، وعابهم بما قالوا؛ إذ- على حدِّ قولهم- كيف يُؤْثِرُهم بالبنين ويجعل لنفسه البنات‏؟‏ ففي قولهم ضلالٌ؛ إذا حكموا للقديم بالوَلَد‏.‏ وفيه جهلٌ؛ إذا حكموا له بالبنات ولهم بالبنين- وهم يستنكفون من البنات‏.‏‏.‏ ثم‏.‏‏.‏ أي عيب في البنات‏؟‏ ثم‏.‏‏.‏ كيف يحكمون بأن الملائكة إناثٌ- وهم لم يشاهدوا خِلْقَتَهم‏؟‏

كلُّ ذلك كان منهم خطأ محظوراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

إنما قالوا ذلك استهزاءً واستبعاداً لا إيماناً وإخلاصاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ولو عَلِمُوا ذلك وقالوه على وجه التصديق لم يكن ذلك منهم معلولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

أي ليس كذلك، حتى أخبر أنهم ركنوا إلى تقليد لا يُفْضي إلى العلم، فقال‏:‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهتَدُونَ‏}‏‏.‏

فنحن نقتدي بهم، ثم قال‏:‏

‏{‏وَكّذَلِك مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمُّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ‏}‏‏.‏

سلكوا طريقَ هؤلاء في التقليد لأسلافهم، والاستنامةِ إلا ما اعتادوه من السِّيرة والعادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

فلم ينجعْ فيهم قولُه، ولم ينفعهم وَعْظُه، وأَصرُّوا عَلَى تكذيبِهم، فانتقمَ الحقُّ- سبحانه- منهم كما فعل بالذين من قبلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

أخبر أَنَّ إبراهيمَ لمَّا دعا أباه وقومَه إلى الله وتوحيده أَبَوْا إِلاَّ تكذيبَه، فتبرّأَ منهم بأجمعِهم، وجعلَ اللَّهُ كلمةَ التوحيدِ باقيةً في عَقِبِه وقومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏29‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ‏(‏31‏)‏ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ‏}‏ أَرْخَيْنَا عنانَ إمهالهم مدةً، ثم كان أمرُهم أَنْ انتصرْنا منهم، ودَمّرْناهم أجْمعين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

إمّا أبي مسعود الثقفي أو أبي جهل، وهذا أيضاً من فرْط جهلهم‏.‏

‏{‏أَهُمْ يَقْسَمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏‏.‏

أَهم يَقْسمون- يا محمد- رحمةَ ربك في التخصيص بالنبوة‏؟‏ أيكون اختيارُ اللَّهِ- سبحانه- عَلَى مقتضى هواهم‏؟‏ بئس ما يحكمون‏!‏

‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم‏.‏‏.‏ فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء‏؟‏‏!‏‏.‏

والإشارة من هذا‏:‏ أن الحقَّ- سبحانه- لم يجعل قسمةَ السعادةِ والشقاوةِ إلى أحد، وإنما المردودُ مَنْ ردّه بحكمه وقضائه وقَدَرِه، والمقبولُ- من جملة عباده- مَنْ أراده وقَبِلَه- لا لِعلَّةٍ أَو سبب، وليس الردُّ أوالقبولُ لأمرِ مُكتَسب‏.‏‏.‏‏.‏

ثمَّ إنه قَسَمَ لِبعْضِ عِباده النعمةَ والغنى، وللبعض القلّةَ والفقر، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم سكناً يسكنون إليه يستقلون به؛ فللأغنياء وجودُ الإنعام وجزيل الأقسام‏.‏‏.‏ فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ المُنْعم القَسَّام‏.‏‏.‏ فَحَمدوا وافتخروا‏.‏ الأغنياءُ وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله‏:‏ «نحن» فاشتغلوا‏.‏

وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار‏:‏ «اما ترضون أن يرجع الناس بالغنى؛ وأنتم ترجعون بالنبي إلى أَهليكم»

‏{‏لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ لو كانت المقاديرُ متساويةً لَتَعَطَّلت المعايشُ، ولَبَقِيَ كلٌّ عندَ حاله؛ فجعل بعضَهُم مخصوصين بالرّفَه والمال، وآخرين مخصوصين من جهته بأجرته فيَصْلُحُ بذلك أمرُ الغنيِّ والفقير جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر؛ فالذي يبقى عنَّا لو صَبَبْنَا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبراناً لمصيبته‏.‏ ولولا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سُقُفاً من فضة ومعارجَ من فضة، وكذلك ما يكون شبيهاً بهذا‏.‏

ولو فعلنا‏.‏‏.‏ لم يكن لِمَا أعطيناه خَطَرٌ؛ لأنَّ الدنيا بأَسْرِها ليس لها عندنا خطر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

مَنْ لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللَّهِ فحاد عن ذكره، وأَخلدَ إلى الخواطر الردَّية فيَّضَ اللَّهُ له مَنْ يَشْغَلُه عن الله-وهذا جَزاءُ مَنْ تَرَك الأدبَ في الخلوة‏.‏ وإذا اشتغل العبدُ في خلوته بربِّه‏.‏‏.‏ فلو تعرَّض له مَنْ يشغله عن ربه صَرَفه الحق عنه بأَي وجْهٍ كان، وصَرَفَ دواعيه عن مفتاحته بمَا يشغله عن الله‏.‏

ويقال‏:‏ أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ؛ والعبدُ إذا لم يَعْرِفْ خَطَرَ فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه بقي في يد هواه أسيراً لا يكاد يتخَلّصُ عنه إلا بعد مُدَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏37‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ‏(‏38‏)‏‏}‏

الذي سوّلت له نَفْسُه أمراً يَتَوَهَّمُ أنه على صواب، ثم يحمل صاحبَه على موافقته في باطله، ويدّعي أَنه على حقِّ‏.‏ وهو بهذا يَضُر بِنَفْسِه ويضر بغيره‏.‏ ثم إذا ما انكشف-غداً- الغطاء تبيَّن صاحبُه خيانَته، ونَدِمَ على صُحْبَتِه، ويقال‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَتَى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 28‏]‏ و‏{‏يَالَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ‏}‏‏.‏ ولكنَّ هذه الندامةَ لا تنفعُ حينئذٍ؛ لأنّ الوقتَ يكونُ قد فات، لهذا قال تعالى‏:‏

‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعّّذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 47‏]‏

‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى العُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

هذا الاستفهام فيه معنى النفي؛أي أنه ليس يمكنُكَ هدايةَ مَنْ سَدَدْنا بصيرته، ولبَّسْنا عليه رُشْدَه، ومَنْ صَببْنا في مسامع فَهمه رصاصَ الشقاء والحرمان *** فكيف يمكنك إسْمَاعه‏؟‏‏!‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏فَإِمنَّا نَذَْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ إنْ انفضى أَجَلُكَ ولم يتفق لكَ شهودُ ما نتوّعَدُهم به فلا تتوَهَّمْ أَنَّ صِدْقَ كلامنا يشوبه مَيْنٌ، فإنّ ما أَخبرناك عنه- لا محالة- سيكون‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ‏}‏‏.‏

أَثبتَهُ عَلَى حدِّ الخوفِ والرجاء، ووقَفَهُ عَلَى وصفِ التجويز لاستبداده-سبحانه بعلم الغيب‏.‏ والمقصود كذلك أن يكونَ كلُّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير- فاللَّهُ يفعل ما يريد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِسمٍ‏}‏‏.‏

اجتهِدْ من غير تقصير وتوكَّلْ على اللَّهِ من غير فُتور، وِقفْ حيثما أُمِرْتَ، وثِقْ بأنك على صِراطٍ مستقيم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ‏}‏‏.‏

أي إنَّ هذا القرآن لَذِكْرٌ لك؛أي شرفٌ لك، وحُسْنُ صيتٍ، واستحقاقُ منزلةٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏‏.‏

حَشَرَ أرواحَ الأنبياءِ- عليهم السلام- ليلةَ الإسراء، وقيل له- صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَلْهم‏:‏ هل أَمَرْنا أحداً بعبادة غيرنا‏؟‏ فلم يَشُكّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ولم يسأل»‏.‏

ويقال‏:‏ الخطابُ له، ولمرادُ به غيره‏.‏‏.‏ فَمَنْ يرتاب في ذلك‏؟‏ ويقال‏:‏ المراد منه سَلْ أقوامهم، لكي إذا قالوا إن الله لم يمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ‏}‏‏.‏

كرَّر قصةَ موسَى غيرَ مرةٍ في القرآن، وأعادَها هنا مجملةً؛ أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجةٍ ظاهرةٍ قاهرةٍ، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك والتكذيب‏.‏ ومع أنَّ اللَّهَ سبحانه لم يُجْرِ عليه من البيِّنات شيئاً إلا كان أوضحَ مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاءٍ أَوْحَشَ مما قبله‏.‏ فلمَّا عضَّهم الأمرُ قالوا‏:‏ يا أيها الساحرُ، أدْعُ لنا ربَّك ليكشف عنَّا البليَّةَ لنؤمِنَ بك، فدعا موسى *** فكشف اللَّهُ عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عَهْدَهُم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَّوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِىِ أَفَلاَ تُبْصِرونَ‏}‏‏.‏

تعزَّزَ بمُلْكَ مصر، وجَرى النيل بأمره‏!‏ وكان في ذلك هلاكه؛ ليُعْلَمَ أَنَّ مَنْ تعزَّزَ بشيء من دون الله فحتفُه وهلاكُه في ذلك الشيء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏‏.‏

استصغر موسى وحديثَه، وعابَه بالفقر‏.‏‏.‏ فَسَلَّطه اللَّهُ عليه، وكان هلاكه بيديه، فما استصغر أحدُ أحداً إلا سَلَّطه اللَّهُ عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

أطاعوه طاعةَ الرهبة، وطاعة’ُ الرهبةِ لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرت عن الرغبة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏ءَاسَفُونَا‏}‏ أغضبونا، وإنما أراد أغضبوا أولياءَنا، فانتقمنا منهم‏.‏ وهذا له اصل في باب الجَمْع؛ حيث أضاف إيسافَهم لأوليائه إلى نَفْسِه *** وفي الخبر‏:‏ أنه يقول‏:‏ «مَرِضْتُ فلم تَعُدْني»‏.‏

وقال في قصة إبراهيم عليه‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال في قصة نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وضَرْبُ المَثَلِ بعيسى هو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏؛ خَلَقَ عيسى بلا أب كما خلق آدم بلا أبوين‏.‏ فحجدوا بهذه الآية‏.‏

وقيل هو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ فقالوا‏:‏ رضينا بأن نكون في النار مع عيسى وعُزَيْر والملائكة، وليس لهم في الآية موضع ذِكرْ؛ لأنه سبحانه قال‏:‏ «وما» تعبدون، ولم يقل «ومن» تعبدون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِِلاَّ جَدَلاَ‏}‏‏:‏ وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن قال آلهتكم خيرٌ فقد أقرَّ بِأنها معبودة، وإن قال‏:‏ عيسى خيرٌ من آلهتكم فقد أقرَّ بأن عيسى يصلح لأن يُعْبد، وإن قال‏:‏ ليس واحدٌ منهم خيراً فقد نفى ذلك عن عيسى عليه‏.‏ وهم راموا بهذا الكلام أن يجادلوه، ولم يكن سؤالهم للاستفادة فكان جواب النبي صلىلله عليه وسلم عليهم‏:‏ «أن عيسى عليه السلام خيرٌ من آلهتكم ولكنه لا يستحق أن يُعْبَد؛ إذ ليس كلٌّ ما هو خيرٌ من الأصنام بمستحق أن يكون معبوداً من دون الله» وهكذا بيَّن الله- سبحانه- لنبيِّه أنهم قوم جَدِلون، وأنَّ حُجَتَهم داحضةٌ عند ربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 62‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ‏}‏ فليس عيسى إلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوَّة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلاَئِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ‏}‏‏.‏

ولو شِئْنا لأنزلنا ملائكةً من السماء حتى يكونوا سُكَّانَ الأرض بَدَلَكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هّاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ‏}‏‏:‏ يعني به عيسى عليه السلام إذا أنزله من السماء فهو علامةٌ للساعة، ‏{‏فَلاَ تَمْتَرُونَّ‏}‏ بنزوله بين يديّ القيامة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

ولا يصدنكم الشيطانُ عن الإيمان بالساعة، وعن أتِّباع الإيمانِ بهُداي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ذكرَ مجيءَ عيسى عَلْيه السلام أول مرة؛ حيث أتى قومَه بالشرائع الواضحة، ودعاهم إلى دين الله، ولكنهم تحزَّبوا عليه، وإن الذين كفروا به لمستحقون للعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعضٍ عَدُوٌ إِلاَّ المُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

ما كان لغير ِ اللَّهِ فمآلُه إلا الضياع والأخلاءُ الذين اصطحبوا عَلَى مقتضى الهوى بعضهم لبعض عدو؛ يتبرَّأ بعضُهم من بعضَ، فلا ينفع أحدٌ أحداً‏.‏

وامَّا الأخلاءُ في الله فيشفع بعضهم في بعض، ويتكلم بعضهم في شأن بعض، أولئك هم المتقون الذين استثناهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الْمُتَقِينَ‏}‏‏.‏

وشرط الخلَّة في الله؛ ألا يستعمل بعضُهم بعضاً في الأمور الدنيوية، ولا يرتفق بعضهم ببعضٍ؛ حتى تكونَ الصحبةُ خالصةً لله لا لنصيبٍ في الدنيا، ويكون قبولُ بعضهم بعض لأَجْلِ الله، ولا تجري بينهم مُداهَنَةٌ، وبقَدْرِ ما يرى أحدُهم في صاحبه من قبولٍ لطريقِ اللَّهِ يقبله؛ فإنْ عَلِمَ منه شيئاً لا يرضاه اللَّهُ لا يَرْضَى ذلك من صاحبه، فإذا عاد إلى تركه عاد هذا إلى مودته، وإلاّ فلا ينبغي أن يُساعدَه عَلَى معصيته، كما ينبغي أن يتقيه بقلبه، وأَلا يسكنَ إليه لغرضٍ دنيوي أو لطمعٍ أو لِعِوَض‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

يقال لهم غداً‏:‏ ‏{‏يا عبادي لا خوفٌ عليكم اليوم‏}‏ مما يلقاه أهل الجمع من الأهوال، ولا أنتم تحزنون فيما قَصَّرْتُم من الأعمال‏.‏‏.‏‏.‏

امَّا الذنوب‏.‏‏.‏ فقد غفرناها، وأمَّا الأهوال‏.‏‏.‏ فكفيناها، وأمَّا المظالم‏.‏‏.‏ فقضيناها‏.‏ فإذا قال المنادي‏:‏ هذا الخطاب يُطْمِعُ الكلَّ قالوا‏:‏ نحن عباده، فإذا قال‏:‏

‏{‏الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

أيِسَ الكفارُ، وقَوِيَ رجاءُ المسلمين‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ‏}‏‏.‏

في رياض الجنة، وترْتَعون‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏تُحْبَرُونَ‏}‏ من لذة السماع‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنُفسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

العُبَّاد لهم فيها ما تشتهي أنفُسهم لأنهم قاسوا في الدنيا-بحُكم المجاهدات- الجوعَ والعطشَ، وتحمَّلوا وجُوهَ المشاقِّ فيُجازون في الجنةَ بوجوهٍ من الثواب‏.‏

وأمَّا أهل المعرفة والمحبّون فلهم ما يلذ أعينهم من النظر إلى الله لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم؛ وما عالجوه من الاحتراق لشدة غليلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 76‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

أي يقال لهم-والخطاب للمطيعين غداً-‏:‏ أنتم يا أصحاب الإخلاص في أعمالكم؛ والصدق في أحوالكم‏:‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأُْكُلُونَ‏}‏‏.‏

من الفاكهة الكثيرة تأكلون، وفي الأُنْس تتقبلون‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عّذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

هؤلاء هم الكفار المشركون، فهم أهل الخلود، لا يُفْتَّرُ عنهم العذاب ولا يُخَفَّف‏.‏

وأمَّا أهل التوحيد‏:‏ فقد يكون منهم قومٌ في النار‏.‏ ولكن لا يخلدون فيها‏.‏ ودليلُ الخطابِ يقتضي أنه يُفَتَّرُ عنهم العذاب‏.‏ ورد في الخبر الصحيح‏:‏ أنه لا يُميتهم الحقُّ- سبحانه- إماتةً إلى أن يُخْرِجَهم من النار- والميت لا يحسُّ ولا يتألم‏.‏

‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏‏.‏

الإبلاس من الخيبة ويدل ذلك على أن المؤمنين لا يأس لهم فيها، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم؛ يعدون أيامهم إلى أن ينتهي حسابهم‏.‏

ولقد قال الشيوخ‏:‏ إنَّ حالَ المؤمن في النار- من وجهٍ- أرْوَحُ لقلبه من حاله في الدنيا؛ فاليومَ- خوفُ الهلاك‏:‏، وغداً- يقينُ النجاة، وأنشدوا‏:‏

عيبُ السلامةِ أنَّ صاحبَها *** متوقِّعٌ لقواصم الظَّهْرِ

وفضيلةُ البلوى تَرَقُّبُ أهلِها‏.‏‏.‏‏.‏- عقبَ الرجاء- مودةَ الدهر

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُم وَلكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

هذا الخطاب يُشْبِهُ كلمة العُذْر- وإن جلّ قَدْرُه- سبحانه- عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

لو قالوا‏:‏ «يا مَلِك» لعلَّ أقوالهم كانت أقربَ إلى الإجابة، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك، فكان الجوابُ عليهم‏:‏

‏{‏إِنَّكُم مَّاكِثُونَ‏}‏ فيها *** نُصِحْتم فلم تنتصحوا، ولم تقبلوا القولَ في حينه، وكان أكثرهم للحق كارهين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 86‏]‏

‏{‏أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏‏.‏

بل أمورُهم مُنْتَقَضةٌ عليهم؛ فلا يتمشّى لهم شيء مما دبَّروه، ولا يرتفع لهم أمرٌ على نحو ما قدَّروه- وهذه الحالُ أوضحُ دليل على إثبات الصانع‏.‏

قوله جل ذكْره‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏‏.‏

إنما خوَّفهم بسماع المَلَك، وبكتابتهم أعمالهم عليهم بغفلتهم عن الله- سبحانه، ولو كان لهم خبرٌ عن الله لما خَوَّفهم بغير الله، ومَنْ عَلِمَ أنَّ أعمالَه تُكتْتَبُ عليه، وأنه يُطالَبُ بمقتضى ذلك- قَلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسألَ عنه‏.‏‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوْلُ الْعَابِديِنَ‏}‏‏.‏

أي إن كان في ضميركم وفي حُكْمِكم وفي اعتقادكم أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّلُ مَنْ يستنكِفُ من هذه القالة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏سُبْحانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏‏.‏

تنزَّه الله تنزيهاً، وتقدَّس تقديساً عمَّا قالوه‏.‏ وفي هذه الآيات وأمثالِهَا دليلٌ على جوازِ حكاية قول المبتدعة- فيما أخطأوا فيه من وصف المعبود- قصداً للردِّ عليهم، وإخباراً بتقبيح أقولهم، وبطلانِ مزاعمهم‏.‏

ثم قال جلَّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ‏}‏‏.‏

إذ ليس يفوت أمرُهم، وهم لا محالة سيلقون صغرهم‏.‏

وفي هذا دليلٌ على أنه لا ينبغي للعبد أن يَغْتَرَّ بطول السلامة فإنَّ العواقبَ غيرُ مأمونة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلهُ وَفِى الأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

المعبودُ- في السماء- الله، ولمقصودُ- في طلب الحوائج في الأرض- الله‏.‏

أهلُ السماءِ لا يعبدون غير الله، وأهل الأرض لا يَقْضِي حوائجهم غير الله‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ‏}‏ في إمهاله للغُصاة، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأحوالِ العِباد‏.‏

‏{‏وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

تعالى وتقدَّس وتنزَّه وتكبَّرَ الذي له مُلْكُ السموات والأرض‏.‏

السمواتُ والأرضُ بقدرته تظهر *** لا هو بظهورها يتعزَّز‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعَونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أي شهد-اليوم- بالتوحيد، فيثبت له الحقُّ حقِّ الشفاعة‏.‏ وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين شفاعتهم تكون غداً مقبوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

فكيف لا يعتبرون‏؟‏ وكيف يتكبَّرون عن طاعة الله‏.‏

‏{‏وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فًسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أي يعلم علم الساعة ويعلم ‏{‏قيله يا رب‏}‏‏.‏

‏{‏فَاصْفَحْ عَنْهُمْ‏}‏ أي أَمْهِلْهُم، وقل لكم مني سلامٌ‏.‏‏.‏ ولكن سوف تعلمون عقوبة ما تستوجبون‏.‏